الأحد، 3 أغسطس 2014

[ الإنصاف الذي عجزنا عنه ] للشيخ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز العنقري حفظه الله .




بسم الله الرحمن الرحيم


[ الإنصاف الذي عجزنا عنه ]


لما سأل رجل الإمام أحمد : نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال : إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمَّنْ ؟ يقول ذلك مراراً، فقال الرجل : إنه يتكلم فيك ، فقال أحمد : رجل صالح ابتلي فينا ، فماذا نعمل؟. (1)

سبحان الله ! ما أعجب السلف وعلماء السنة في تقواهم لربهم وإنصافهم لغيرهم !
فالإمام أحمد يُنقل له أن الطوسي يتكلم فيه، فلم يحمله ذلك على أن يحذر الناس منه ، إنصافا للرجل ، وأمانة في نصح المتعلم الذي استشاره في الاستفادة من واحد من حملة العلم ، لا مطعن فيه من حيث صلاحه وعلمه .

فأما موقفه الشخصي من الإمام فذلك ابتلاء ابتلي به الرجل، رغم فضله ونُبله.
ويبقى العجب العجاب في جواب أحمد : ((فماذا نعمل)) ؟

إي والله ، ما تعمل إذا وقع فيك رجل فاضل ملازم للسنة ؟ أتحذر الناس منه ، كما تحذرهم من أهل الباطل ؟ فتجعل نفسك هي ضابط الولاء والبراء، وكأنك رسول أو صحابي لايتعرض لهما إلا أهل الزيغ والضلال.

إن تقوى الرب والإنصاف من النفس لتجعل المرء الشديد الشجاع في بعض الأحيان كالجبان، وذلك إذا مابتلي بأخ له على السنة يذمه وينفر منه ، فلا يتمكن المُنصِف أن يبادله المذمة بمثلها -مع سهولة ذلك عليه- لعلمه بأنه لايحل له أن يقع فيما وقع فيه أخوه , وهذا الموقف _ولا بد _عسير على النفس شديد الوقع عليها.

وأشدّ من هذا وأعسر أن يمنع المُنصِف جلساءه من مسبة مَنْ وقع بينه وبينه خصام ، فيكون هو أول الذابين عن عرض خصمه حين غاب ، كما وقع لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، فقد كان بينه وبين خالد بن الوليد رضي الله عنه كلامٌ فذهب رجل يقع في خالد عند سعد، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن زجره قائلا " مَهْ، إن مابيننا لم يبلغ دِيناً ".(2)

 الله أكبر ! من يقدر على هذا السمو في الأخلاق إلا ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم؟
لقد ذَبَّ سعد عن عرض خالد رضي الله عنهما ، ليبين للرجل أن وقوع الخصمة بينه وبين أخيه خالد لايعني أنه سيأذن لأحد بالوقوع فيه وذمِّه، حتى وإن اختصما وأغضب كل واحد منهما صاحبه.

وذلك أن ثمة فرقا عظيما بين خصمة دينية يكون الحامل عليها تحذير الأمة من عدو لدين الله ، وبين خصمة شخصية بين أخوين كلاهما على السنة , فوقع بينهما موقف لم يوفق فيه أحدهما إلى الصواب ، فذلك وإن أوجد بينهما الخصام وارتفاع الأصوات فلا يحل أن يحمل أحدهما على هضم حق أخيه ، فإن استَحْمَق أحدهما وفعل ذلك فلا يحل للآخر أن يصنع صنيعه .

ألا ليتنا اليوم نحذو حذو سلفنا فنطرح جانبا حظوظ النفوس و خبيئات المقاصد، حيث جعل بعضهم التحذير من إخوان لهم في الاعتقاد كالتحذير من خصوم السنة وأعدائها، لمجرد أن وقع بينهم ماوقع من نزاعات شخصية , أو خلاف في أمر يسوغ الخلاف في مثله عند سلف الأمة , ولا يستوجب وحشة القلوب، فضلا عن التصدي لتحذير الناس من أخي العقيدة والمنهج .

إن ماذكِر من ورع المنصف عن مبادلة المَذمَّة بمثلها لا يعني إغفال قول الله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) (النساء:148) لأن المراد بالآية كما قال عبدالكريم الجزري رحمه الله : "هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه".(3)

فردُّ المسبة بمثلها مباح ، فأما الافتراء فمحرّم مطلقا ، ولذا لا يُردّ بمثله ، فإن الافتراء قد يبلغ بالمرء أن يرمي أخاه المؤمن بالكفر ، فليس لمن كُفر أن يرد الصاع بمثله فيُكفر من كفره.

ولهذا فإن الإمام ابن تيمية لما نَقل قول بعضهم : لانكفر إلا من يكفرنا ! أبطل هذا بقوله : "الكفر ليس حقا لهم ، بل هو حق لله ، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه..."(4)

فالمؤمن قد يُكفر فلا يقدر أن يُكفر ، وقد يُكذب عليه فيأبى أن يَكذب على من كَذبَ عليه ، لا لجبنه ، بل لورعه وإنصافه.

فنسأل الله الذي أكرمنا بأن جعل سلفنا خير سلف أن يسلك بنا على هديهم ويُمسِّكنا بمنهجهم ، إذ كانوا كما ذكر ربهم عن صالحي عباده :(للمتقين إماما) (الفرقان :74) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)طبقات الحنابلة 2/45
(2)رواه أبونعيم 1/94ـ95
(3)تفسير القرآن العظيم 1/571
(4)منهاج السنة 5/244










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.