فمن أول الدروس العلمية التي يتلقاها طالب العلم الشرعي في بداية استقامته و عند أول رغبته في طلب العلم اذا توجه ليتعلم ما ينفعه بقصد التفقه بالدِّين، فالدرس الأول هو ان العمل لا يكون مقبولاً عند الله تعالى الا اذا كان خالصا لوجه الله الكريم وحده لا شريك له، ثم يبدأ المعلم بذكر الأدلة الدالة على وجوب الاخلاص لله كقوله تعالى {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقوله: {قُلْ انِّي أُمِرْتُ ان أَعبدالله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} [الزمر]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا الَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: 5]، وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} [غافر]، وقوله: {قُلْ ان صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام]، و لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى أنا اغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيره تركته وشركه»، وفي رواية «فهو للذي أشرك»، [رواه مسلم، حديث رقم: 7666، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وللحديث المشهور الذي لا يكاد يخفى على مسلم عنده أدنى خلفية علمية وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه «انما الأعمال بالنيات»، وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة الدالة على وجوب الاخلاص لله تعالى في القول والعمل وفي ما يأتي المسلم وما يَذَر، وأن الاخلاص شرط لقبول العمل، فلا يقبل الله تعالى من الأعمال الا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.وهذا الدرس سهل استيعابه جدا حتى اذا انتهى المعلم من الدرس وسأل الطالب من أول مرة مباشرة سيجيبه بسهولة ويسر. بل حتى لو غير المعلم في صيغة السؤال فسيظفر من الطالب بإجابة صحيحة
كما لو قال المعلم: لمن تكون العبادة؟
الطالب: لله.
المعلم: هل تقبل العبادة لغير الله؟
الطالب: لا.
المعلم: هل تقبل العبادة اذا كانت لله ولغير الله؟
الطالب: لا.
المعلم: لمن الدين كله؟
الطالب: لله.
المعلم: هل الاخلاص شرط لقبول الأعمال؟
الطالب: نعم.
المعلم: هل يجب ان تخلص لله في جميع عباداتك؟
الطالب: نعم.
المعلم: هل يحرم ان تبتغي بعملك غير الله؟
الطالب: نعم.
المعلم: هل يجوز ان تشرك في العبادة أحداً مع الله؟
الطالب: لا.
المعلم: هل الذي يعمل لغير الله مشرك؟
الطالب: نعم.
المعلم: لمن تعمل جميع أعمالك؟
الطالب: لله.
المعلم: من أمرنا بهذا؟
الطالب: الله.
المعلم: هل أمرنا الله بسوى الاخلاص؟
الطالب: لا.
وهكذا مهما يقلب المعلم السؤال أو ينوع في صيغته فسيجيب الطالب اجابة صحيحة سليمة، وما ذلك الا لسهولة الدرس ووضوحه. لكن -وما أدراك ما بعد لكن- الصعوبة الشديدة في هذا الدرس تكمن في تطبيقه فمن ذا الذي يخلص لله في عمله وفيما يأتي ويذر، ويحقق الاخلاص لله بحيث لا يكون في عمله شيء لغير الله؟ ان اخلاص الدين لله صعب جداً جداً وهو سهلٌ على من سهَّل الله عليه فحسب، ولقد سأل معاذ بن جبل رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد سألت عن عظيم، وانه ليسير على من يسر الله عليه: تعبدالله ولا تشرك به شيئاً».. الحديث. [رواه الترمذي، (2616 (، وقال: حديث حسن صحيح].
وهكذا لو راجعنا أنفسنا لوجدنا أننا نغضب كثيرا لأنفسنا لا لله، ونرضى لأنفسنا لا لله، ونعطي ونمنع لمصالحنا لا لله، ونحب ونبغض ليس في الله فما أحوجنا الى مراجعة أنفسنا ونجدد اخلاصنا قبل ان نلقى الله فيبدو لنا ما لم نكن نحتسب، قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)} [الزمر]. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجدد عهده بالاخلاص فكان يقول دبر الصلاة: «لا اله الا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» [رواه مسلم في صحيحه عن الزبير، حديث رقم: 1371]. ولندرك جميعا ان حمل النفس على الاخلاص وتجريدها لله ليس بالأمر الهين السهل اليسير الا على من وفقه الله تعالى لذلك قال سفيان الثوري: (مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ على مِنْ نِيَّتِي).
ومما يدل على خطورة الأمر وشدته على النفوس ان كثيراً من الناس يظن نفسه مخلصاً وهو ليس كذلك، فلقد روى الامام مسلم في صحيحه (حديث رقم: 5032) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«انَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ.فَقَدْ قِيلَ.ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ.وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ.فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ ان يُنْفَقَ فِيهَا الاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ.فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ».
أسأل الله ان يرزقنا الاخلاص في القول والعمل ويطهر قلوبنا من النفاق والرياء. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق