بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -
في ( المنتقى من فرائد الفوائد ص ١٥٠ )
فائدة :
في
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف، أمر رئيس الحسبة عندنا أن يتفقد الناس
في صلاة الفجر، فاستشكل بعض الناس ذلك: بحجة أن هذا عمل بدعي لم يكن
معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يلزم منه أن يصلي بعض الناس
رياء وسمعة، خوفاً من الفضيحة، ويلزم منه محذور آخر، وهو أن بعض الناس قد
يقوم من منامه متاخراً فيصلي بلا وضوء أو مع الجنابة.
والجواب
على هذا الإشكال: أن الشبهة الأولى- وهي كونه عملاً بدعياً- ليست بشبهة
فإن العلم المحدث بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
نوع:
يفعله محدثه على أنه عبادة وقربة؛ فهذا بدعة لا يجوز، لأن الأصل في
العبادات الحظر، فلا يشرع منها إلا ما جاء عن الله ورسوله، فالعبادات
مبناها على التوقيف يجب اعتقاد ما جاء به الشرع ديناً، وأن لا يشرع شيء على
سبيل التعبد والتدين، وهو لم يرد به كتاب ولا سنة.
النوع الثاني: عمل يحدثه صاحبه على غير سبيل التعبد والقربة؛ فهذا ثلاثة أنواع:
الأول:
ما كان داخلاً تحت عموم نص، سواء كان تحت عموم لفظي أم عموم معنوي، أي:
بأن يكون داخلاً في عموم لفظ النص أو في عموم معناه، وهو المقيس على ما جاء
به النص؛ فهذا واضح؛ له حكم ما دل عليه النص من تحريم أو إباحة أو إيجاب.
الثاني: ما لم يكن داخلاً في عموم نص؛ بل هو مسكوت عنه؛ فهذا
مباح
على أصح الأقوال؛ لعموم قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعا) (البقرة: 29) ، وقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق)
(الأعراف: 32) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وسكت عن أشياء؛ رحمة بكم
غير نسيان)) ، فما سكت عنه الله ورسوله فهو عفو.
ووجه الدلالة من الآيتين: أن التناول لما في الأرض وللزينة والطيبات عمل.
النوع
الثالث: ما لم يكن داخلاً تحت عموم نص، وهو مسكوت عنه، لكنه وسيلة، فهذا
له حكم ما كان وسيلة له؛ كاستعمال الأشياء المعينة على تبليغ الكلم من
الإذاعات ومكبرات الصوت، وعلى إدراك الأشياء، كنظارة العين، ونحوها.
فهذه:
إن استعملت لأمور نافعة، كانت محمودة، وإن استعملت لأمور ضارة، كانت
مذمومة، وإن استعملت في أمور مباحة، كانت مباحة، ومن هذا النوع: ما يستخدم
الآن في الاستخبارات والتجسس؛ من مسجلات الصوت ونحوها.
ومن
هذا أيضاً: تفقد الناس في المساجد؛ فإنه يستعمل ليعين الناس على الحضور
إلى الجماعة، ولا أحد يشاهد الحال إلا ويعرف بأن له أثراً كبيراً في حضور
الناس إلي الصلاة في الجماعة، ولا ريب أن حضور الناس إلى الجماعة أمر محمود
شرعاً؛ فيكون التفقد المعين عليه محمودا كذلك.
هذا
على فرض أن التفقد لم يرد به عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ فكيف وقد
ورد الحديث بذلك؛ فعن أبي بن كعب- رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح، فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد
فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ...
))
الحديث؛
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما،
والحاكم (1) وقد جزم يحيى بن معين، والذهلي بصحة هذا الحديث؛ ذكره في
((الترغيب والترهيب)) (ص264ج1) .
وبهذا تبين أن التفقد كان معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا؛
وفي (ص203) من ((الدرر السنية)) ، فتاوى علماء نجد في الجزء الرابع، من
المجلد الثاني، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن- رحمه الله-: يلزم الأمير
يلزمهم تفقد الناس في المساجد حتى يعرف من يتخلف عن الجماعة ويتهاون بها،
ويجعل للناس نوابا للقيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان
والقرى.. إلي آخر ما قال.
وأما كونه
يلزم من ذلك أن يصلي بعض الناس رياء وسمعة، فجوابه: أن هذه الحدود
والعقوبات التي جعلها الشارع مرتبة على بعض المعاصي، هي- أيضاً - سبب من
اسباب ترك المعصية؛ فإن كثيراً من العصاة قد يمنعهم من فعل المعصية خوف
العقوبة: ولذلك تجد بعض الناس إذا حصلت له المعصية خفية، لم يتوقف في
فعلها، أما إذا كانت لا تحصل له إلا في مواقع العثور عليه، فإنه يتركها
خوفاً من العثور عليه وعقوبته، ولا أحد يرتاب في مصلحة هذه الحدود
والعقوبات، وأنها من رحمة الله وحكمته التي بهرت العقول، وتقاصرت عنها حكم
ذوي الألباب؛ وهل يمكن لعاقل أن يعترض على هذه الحدود والعقوبات بحجة أن
بعض الناس قد يترك المعصية خوفاً من الحد والعقوبة، فيكون بذلك مرائياً
ومسمعاً؟!
فإن قيل: ((هذه الحدود والعقوبات جاءت فيمن فعل المعصية،والترك من أجلها ليس فعلاً يتصور فيه الرياء والسمعة)) :
فالجواب من وجهين:
الأول: أن تارك المعصية ظاهرة الصلاح، والأمر الظاهر تتصور فيه المراءاة والسمعة.
الثاني: أن الشرع جاء بالعقوبة على ترك الواجبات، كما في عقوبة مانع الزكاة ونحوه.
وأما ما يلزم من ذلك من كون بعض الناس يصلي بلا طهارة: فهذا إن وقع فهو نادر، والأمر النادر لا يترك له ما كان محقق المصلحة.
ثم إنه مفسدة في حق الفرد، والتفقد مصلحة عمومية، والمصلحة العامة تغتفر فيها المفسدة الخاصة.
ثم
إن هذا المصلي بلا طهارة، هو الذي جنى على نفسه، فالذنب ذنبه، وليس ذنب
المتفقد؛ فلم لا يقوم مبكراً حتى يتمكن من التطهر قبل المضى إلي الصلاة؟!
وبهذا تبين أنه لا إشكال في عمل التفقد، وأنه مصلحة ظاهرة، والله الموفق.انتهى
نقلت هذه الدرّة الثمينة عن الأخ الفاضل منصور بن عبد الله العازمي - وفقه الله -