Posted on 2011/10/05 by محمد جميل حمامي
نصائح لمبتغي الجليس الصالح
لربنا تمام الحمد ، وكامل الثناء و المجد ، منفرد بكل كمال ، موصوف بغاية العظمة و الجلال ، منفرد باستحقاق العبادة و الخضوع و الإنابة ، ثم الصلاة و السلام على أشرف عبد – نبي الإسلام – يطاع أمره ولا يرد ومن لا يترك قوله لقول أحد ، ثم أما بعد :
مسيلة لعاب الطالبين و حصادة أوقاتهم في كل وقت وحين ، أسرت أفكارهم و خلبت ألبابهم ، واستحوذت عليهم باستفراد و احتكار ، حتى أن قائلهم ليقول :
لَنَا جُلَسَاءُ مَا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ … أَلِبَّاءُ مَأْمُونُونَ غَيْياً وَمَشْهَداً
يُفِيدُونَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ مَنْ مَضَى … وَعَقْلاً وَتَأْدِيباً وَرَأْياً مُسَدَّداً
بِلا فِتْنَةٍ تُخْشَى وَلا سُوءِ عِشْرَةٍ … وَلا نَتَّقِي مِنْهُمْ لِسَاناً وَلا يَداً
فَإِنْ قُلْتَ أَمواتٌ فَمَا أَنْتَ كَاذِبٌ … وَإِنْ قُلْتَ أَحْيَاءٌ فَلَسْتَ مُفَنَّداً
كيف لا ! وهي الجليس الصالح و الأنيس الناصح ، أعني الكتب لو كنت نبيهاً ذا فطنة و لب ، ربيع الأبرار وبستان الأذكياء الأخيار ، فلكم أسهرت متيميها ، ولكم استوطنت أفكار محبيها وعشعشت بأذهانهم ، فبذلوا النفائس في مهرها ، وقطعوا البلدان من أجلها ، فمن نائل مبتغاه ومن منتظر ، ومن وازن بين كتابين فنال الأول وترك الآخر فهو مقطع أنامله من الألم و الندم ، ومن مار على كتاب فكأنه تقال أمره فلم يفز به فهو إلى الآن يحكي حسرة وتوجعاً ، ومن مأخوذ باصطفافها على رفوف مكتبة تزين نفسها ، يشرئب إليها فؤاده و تتوق لحيازتها نفسه ولسان حاله قائل : يا لكبر المنى يا لصغر الاستطاعة ! فيمضى فرحاً بما اقتنى مودعاً ما بقي ، وهكذا فإن للطلاب مع كتبهم أحوال ولعل لكل كتاب في مكتبته قصة كأنها نسج خيال كيف دل عليه كيف وجده كيف ادخر ثمنه وكيف كان أول لقاء بينهما ، أحوال يعرفها من عاشها ، و الخبر ليس كالمعاينة بحال .
و لأجل أن لا نندم بعد شراء كتاب ولكيلا نجلد أنفسنا بملامة وعتاب كتبت هذه النصائح التي ما زالت مجدية معي إلى الآن فهي ذي معروضة عليكم منشورة بين أيديكم :
أيها الكيّس الفطن :
تشتري الكتاب – عادة – لدلالة خريت نحرير عليه فيقع أمره من قلبك كل موقع ! فتمضي باحثاً عنه في كل مكان و موقع ، فما إن تسمع عالماً يمتدح كتاباً – كتابة أو صوتاً – إلا وتقول هذا هو ! أريده أريده ، فتشتهيه نفسك و تمنيك وتغريك ، فإن كان الأمر كذلك فهو الأمر ! فما إن تعرف نصح عالم بكتاب و يمتدحه فاشدد يديك في غرزه و احرز نفسك بحرزه ، فنعم النصيحة ونعم الدلالة تلك .
و تشتريه كذلك للحاجة ؛ فلعلك محتاج لكتاب في علم ما وأمامك معروض كتب وكتابات تحكي عن نفسها وتحكيها نفسك ! فما السبيل وما العمل ؟
– أولاً : تنظر إلى اسم الكاتب المصنف ، وذلك من أوجه :
فإن كان صاحب شر وبدعه ففر منه فرارك من الأسد ، وإن كان من أهل السنة و الحق فاظفر منه بحصة الأسد ، فأهل السنة لا يجاروا ولا يباروا ولن يسبقهم أحد ، ولعلك تعرف أن في الصحيح غنية عن الضعيف .
ثم تنظر فتأخذ من صاحب الاختصاص المبرز فيه ، فإن كانت حاجتك مثلاً في الحديث وأمامك كتاب لمحدث و نحوي ، فأعط القوس باريها وخذ علمك عن أهله فمن تكلم بغير علمه أغرب و أطنب .
ثم تأمل حال هذا المصنِّف أمن أهل العلم هو الذين يؤخذ عنهم ويتحمل ؟! أو أنه كأي أحد ! جماع قش بدون تمحيص وفتش ؟ أعالم هو يحتذى أو متعالم فيحتذى ؟! فكلام الأولين كلام ! وكلام الآخرين كأي كلام .
– ثانياً : خذ هذا الكتاب على راحتيك ثم لا يفوتك أن تتأمل ثلاثة أمور :
أن تقرأ مقدمة الكتاب : فهي آخر ما يُكتب فيها الفكرة العامة عن الكتاب و خطته ، وأول ما يُقرأ لتعطي تصوراً عاماً عن المصنَّف ؛ فهي المقدمة !
ثم تقرأ فهارس الكتاب ، ولا أقل من أن تمر عليها مروراً ، لتتأمل مباحثه و فصوله و مدى استيعابه للموضوع .
ثم اطلع على فصل أو مبحث من مباحث الكتاب ، و تأمله و اقرأه وأنعم ناظريك فيه ، وانظر هل أخذ الموضوع من جوانبه ، هل أشبع غليلك و روى ظمأك ، ولا أقل من أن تطلع على فقرة أو صفحة لتعرف حصيلة الكاتب العلمي و اللغوي ، ولا تغرنك زخارف الكِتاب و بهرج الغلاف و تزويق اسماء الكُتاب ! فكثير منها ما هي إلا دعاوى ! يظهر زيفها وكذبها بعد قليل من ولوجك في القراءة ، فتصتدم بأن هذا البهرح منقود وهذا التزويق مغشوش مرفوض ، وستفاجئ بأن الأمر لا يعدو أن يكون غبار انفض وراح ! ، و ما أكثر الغش و التدليس في هذه الأزمان ، و الحال يحكي بل ويبكي ! حتى إن الأمانة فيه باتت عزيز بعيد مفقود ! ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وإذا كان الكتاب لعالم متقدم : فابحث عن أفضل تحقيق ؛ وصدقني أن تنتظر تمكنك من التحقيق الأفضل أفضل بكثير من أخذك أياه بأي تحقيق أو بدون تحقيق ، فإنه سيتعبك و يضنيك وأنت في غنى عن هذا كله . ولكم بُذل مال في مثل هذه الكتب المخربة بهذه الخربشات المسماة بالتحقيق – بالزور و التلفيق – فتحسر و تندم للعبث في النص المحقق و التساويد التي بالهوامش ولعلها تنفخ الكتاب الأصل دون أي اعتناء به أو ضبط لأصله ومتنه ، واستعجالك هذا فيه سيئات منها : أنك تبذل مالك في ما لا يستحق فإما أنك تعيد شراء الكتاب مرة أخرى بالتحقيق الأفضل ، أو تستروح ما بين يديك فتحرم نفسك من خير كثير ، وتفوتك فائتة .
فكثير من الكتب القديمة تطبع هكذا سرداً متراكماً دون تبويب أو فصول أو عنصرة ، فضلاً عن ضبط النص و المتن والتحقيق ، فضلاً عن الفهرسة و الترتيب ، فضلاً عن التخريج و توضيح المبهم وشرح الغريب ! فتشتريها و تركزها على رفك ! إن نظرت إليها تاقت إليها نفسك و إن فتحتها استثقلت و اغتممت ، و النفس لا تقوى ! وأنت – كما قلنا في غنى – .
واعرف أنك حين تبحث عن كتاب أنك لا تبذل مالاً فقط ! بل تبذل جهداً و وقتاً والكثير من الصبر لتنال أعلا المطالب ، ففتش في رفوف المكتبات فلكم حوت في حواشيها نفائس لم ينتبه إليها العجل ، ولكم في غوائلها فرائد و درر ، فإن في الخبايا شؤون وحكايا ، فتنقل بين الكتب على هونك ومهلك فأنت بين أهلك وناسك فعلى رسلك حنانيك ، إلا إن كنت تحسب أنك تشتري سلعة كأي سلعة ! فأنت حينئذ لست أهلاً لقنى الكتب و سبر غوائلها و اقتناص نفائسها .
ثالثاً : لا تستهن بجودة الكتاب و طباعته :
فتأمل كعب الكتاب و متانته ، لا تجده بعد حين أوراقاً مفرقة تسعى خلفها و تتعبك !
وتأمل جودة الطباعة فكلما كان الحبر أغمق كان أفضل و أوضح و كلما كان الورق ثخيناً كان حسناً جيداً .
وتأكد من خلو الكتاب من الأخطاء ، فكم من كتاب بعد شراءه إذ به صفحات ناقصة أو ورقات بيضاء ناصعة أو انتكاس في الصفحات بل في فصول ، فتأكد من هذا ، و شبيهه ، لا ينحرق قلبك و تذهب نفسك عليه حسرات .
قال ابن جَمَاعَة : (( إذا اشترى كتاباً تعهّد أوّله ، و آخره ، و وسطه ، و ترتيب أبوابه ، وكراريسه ، وتصفّح أوراقه ، واعتبرَ صحّته )) [ تذكرة السامع و المتكلم (119)]
و في الختام أيها الحصيف الشريف :
لا تبخل على نفسك باقتناء الأفضل بوقت أو مال ، فإنك تطلب نفيساً ثميناً ، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر ، فيصدق في الكتاب قول القائل :
نِعْمَ الأَنِيسُ إِذَا خَلَوْتَ كِتَابُ … تَلْهَو بِهِ إِنْ مَلَّكَ الأَحْبَابُ
لا مُفْشِياً سِرَّاً إِذَا اسْتَوْدَعْتَهُ … وَتُفَادُ مِنْهُ حِكْمَةٌ وَصَوابُ
وأخيراً هذه نصيحة :
فقد قال ابن جماعة : ( ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكُتب المُتحاج إليها ما أمكنه ، شراءً ، و إلا فإجارة أو عاريَّة ، لأنها آلة التحصيل ، ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظّه من العلم ، وجمعَها نصيبه من الفهم ، كما يفعله كثير من المنتحلين الفقه و الحديث .
وقد أحسن القائل :
إذا لم تكن حافظاً واعياً … فجمعك للكتب لا ينفع ) [ تذكرة السامع و المتكلم (116)]
ولعل في الجعبة حلقة متممة في كيفية الطريقة الأفضل لقراءة الكتب و استخراج الفوائد منها ، إن مَنَّ الله وأنعم .
فهذا آخر المراد ، وإن عَنَّ بالبال جديد في المآل فلن أبخل ، وكذا لن يبخل الإخوة الألباء بفائدة مستفادة أو نصيحة زيادة .
محمد جميل حمامي
القدس ، عين عيون المسلمين و مهوى أفئدتهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق