تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبيد الجابري حفظه الله
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد.
فقد استعرضت استعراضا كاملا ما كتبه أخونا مصطفى بن محمد مبرم في رده دعوى يحيى ابن علي الحجوري مشاركة الصحابة في قتل عثمان رضي الله عنه، فألفيت هذا الرد مشفيًا للعليل مرويًا للغليل قائما على الدليل في دحض هذه الفرية وتبرئة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المشاركة في قتل ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامية سابقًا
حرر ليلة الثلاثاء الأول من جمادى الأولى
عام اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف.
مراحــل الـحجــوري في اتـهام الصحابة بالمشاركة في قتل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على رسوله الأمين , وآله وصحبه أجمعين.
لا يخفى على آحاد أهل السنة المنتسبين لهذا المنهج السلفي الحق - الذي سار عليه السلف على علم وحكمة وسلامة - أن من أُصوله ، سلامة ألسنتهم وقلوبهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم , ورضي الله عنهم - وذلك حق لا مرية فيه ولا جدال ، وأدلته متواترة متظافرة مقررة في كتب الاعتقاد
وإن من حقوقهم التي تجب رعايتها عدم الدخول فيما شجر بينهم ولو كان ذلك حاصلاً فكيف إذا كان باطلاً مختلقاً ، مع الإيمان بأنهم لا يصرون على ذنب رضي الله عنهم , مع ما في ذلك من مصالح في نزول التشريع ، وأن الله قد غفر لهم بسابقتهم ، وما أبلوا في الله ، وما وقع لهم من الابتلاء ، ولهذا وغيره فلن أطيل في ذكر ذلك و لك أن تراجع فيه الواسطية لشيخ الإسلام رحمنا الله وإياه .
هذا وقد شُحن التأريخ بألوان من الأخبار والفتن الزائفة العارية عن التحقيق إلا الدعوى فيه ، ومن تلك الفتن - بل هي بابها المولوج وسبيلها المطروق - فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، ومن اعتزل منهج السلف فيها وفي غيرها خلط وخبط وأتى بالأباطيل .
وحيث عجز العبد عن الوصول إلى سدة التحقيق فلا أقل من أن يتبع أهله وفي ذلك السلامة ، إذ هم أهل الحق وأتباع الجماعة .
وفي هذه العجالة سأبين لك مغبة الفتن ، والاستعجال فيها والإصرار التابع لعدم قبول الحق ببعض آثاره ، وذلك ببيان مراحل الحجوري في اتهام الصحابة بالمشاركة في قتل عثمان رضي الله عنهم جميعاً .
مر الحجوري فـي اتـهام الصحابة بالمشاركة فـي قتل عثمان رضـي الله عنهم بخمس
مراحل , سأذكرها مقرونة بتعليق مختصر وملحقة بالأدلة على براءة الصحابة من دم عثمان رضي الله عنهم جميعًا .
المرحلة الأولى : مرحلة اتهام بعض الصحابة بالمشاركة في قتل عثمان ودعوى التحقيق في ذلك ، وأنه لم يذكر إلا شيئاً صحيحاً ثابتاً ، وفي هذه المرحلة ساق الحجوري ما يربوا على عشرين موضعا من الأمور التي حصلت للصحابة , ليبين أنهم ليسوا معصومين فتتحصل له مقدمة توصله إلى نتيجة القول ببدعية أذان عثمان بن عفان رضي الله عنه , وقـد نوقـش فـي ذلك.
وفي سياق ذلك قال: " وكل هذه الأدلة التي أشرنا إليها لم نذكر منها شيئا غير صحيح , وهي قليل من كثير من الحالات التي حصلت للصحابة رضوان الله عليهم , وهي برهان جلي أن أفرادهم غير معصومين عن كبار الخطايا وصغارها , سواء في ذلك عثمان رضي الله عنه أو غيره " اهـ .
وكان منها قوله : ( ومشاركة بعض الصحابة في قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه) ! هكذا وقع له في طبعات " كتاب الجمعة " ([1])إلا الأخيرة كما يأتي !! وسأناقشه على هذا الثبوت ، وأبين وجهه المعكوس , وقد ذكر حوادث أعيان قد تاب منها أصحابها ، ومحيت عنهم بسابقتهم ، وكانت منهم لحكمة التشريع والرحمة بهذه الأمة من رب العالمين كما تقدم لك .
وفي كلامه وستاره هذا مسائل كبيرة سأناقشه عليها و ما فيها من دعوى التحقيق وأن كل ما ذكره صحيح سالم من الانتقاد وأبين عكسه.
المرحلة الثانية : مرحلة الهروب ، والتملص من التبعة ، وتسميتها جناية ، يتحملها العلماء بزعمه - وأحال كذبًا عليهم كما وقع له في اتهام الصحابة بالوقوع في شبهة الإرجاء ونسبة ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أو لسوء فهمه على أقل الأحوال وهو يصور ذلك وكأنه متابع لهم في ذلك , وكانت هذه المرحلة بعد أن انتُقد عليه قولته المشينة بمشاركة الصحابة فـي قتل عثمان , وفيها سُــئل الحجوري - وليته قَبِل الفائدة - وهـذا نص السؤال
والجواب: ( إن ابن العربي رد دعوى مشاركة الصحابة في قتل عثمان , فأجاب: هذه المقولة لست أنا الذي ذكرها
قلت: فتحنا التهذيب وتهذيبه فما وجدنا إلا التشغيب , فليس في ترجمة ابن أبي بكر ذكر للفتنة , لكن الحافظ المزي - وتابعه ابن حجر في تهذيبه - ذكر ذلك في ترجمة عثمان , على العكس من ذكر الحجوري ؛ فقد عكس القضية من الجهتين , [ الأولى ]: جعل ذلك في ترجمة ابن أبي بكر وليس كذلك.
و[ الثانية ]: أنه جعل ذلك إثباتًا للمشاركة وهما ينفيان ذلك عنهم ([2]). وبهذا يتبين لنا سعة اطلاعه ومعرفته.
قلت: وأما الذهبي فلم يفصح , لكنه ذكر هذا وهذا ([3])غير جازم بشيء ([4]).
أهذا هو التحقيق والتدقيق ! ولقد كان خير منه كسر الأقلام ، استبدالاً لهذه الحيدة كيف تحيل على مصادر في مثل هذا الباب لا تعتني بذكر الأسانيد إلا ما كان من الطبقات كما يأتي ولو ساقوا الأسانيد - في مثل هذا الباب - ما كان كاف للإحالة دون فحص وتمحيص وهذا لا يخفى على من وضع رجله في أول سلم الطلب , أم أنك تنزل مصادر التأريخ منزلـة الصحيحين , ولا غرو فمن اطلع على تحقيقاته لم يأبه بما وراء ذلك ! .
وأما أئمة السنة من المؤرخين فقد برئت عهدتهم بمنهجهم الذي ساروا عليه , وما أودعوه من التحقيق والتعقيب كما لا يخفى على القارئ ويأتيك بعضه .
قال ابن جرير: ( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ) اهـ ([5]).
ورحم الله القحطاني إذ يقول :
( لا تقبلن من التوارخ كلما == جمع الـرواة وخـط كل بنان ) .
ويكفي في هذا المقام - مع سابقه - أنه انتقل من ذكر الثابت الصحيح ! , إلى التقليد المحض المبني على الهيام !! , إلى الشك والتردد !!! وهي :
المرحلة الثالثة: مرحلة الشك والتردد والاضطراب , حتى حصر " البعض " في محمد بن أبي بكر - إن ثبت عنه هذا - مع عدم القناعة بتحقيق شيخ الإسلام , وفيها يقول : ( كم من قصة نعتمد عليها لشهرتها ! أو لوجودها في كتاب! ثم تطلع طعنًا في إمام على غير سند ثابت ! وهذا فيه نظر , ومن تلك القصص ما تواترت في كتب التراجم عن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أنه شارك في قتل عثمان !!! , فإن بعض الطرق في طبقات ابن سعد لولا أنا ما عثرنا عليها فإن ظاهرها الصحة , وهكذا تهذيب الكمال كل مكان ترجم له يذكر هذا ، وشيخ الإسلام ينفي ذلك ينفي ذلك , فإن ثبت فيقال أخطأ ما هو معصوم ، وإن لم تثبت تلك الأسانيد فيقال هذا -كما قال شيخ الإسلام- العبرة بالأسانيد العبرة بثبوت ذلك ) اهـ .
المرحلة الرابعة : ( توضيح هذه المرحلة ) مرحلة التباكي على منزلة الصحابة دون نظر إلى ما انتقد عليه , وفيها سُئل : ( يشيع عنكم بعض الحزبيين وخصوصًا أصحاب الحـزب الجديد أنكم طعنتم
في الصحابي الجليل عثمان بن مظعون فما صحة ذلك .
الجواب: والله ما أنا رافضي ! كل أهل السنة يعرفون أني سني ، ولا أنا من طائشي الإخوان المسلمين الذين يتجرؤون على أصحاب رسول الله ! معاذ الله فلحمي ودمي وعرضي فداء لأصحاب رسول الله ... ) اهـ .
قلت: لقد كان خير من هذا التباكي والافتداء أن يبين الحجوري حقيقة ما نسب إليه في حق الصحابة , وليس لازمًا أن ينسب إلى طائفة في ذلك , ولا أدري ما تفسير الطيش ! مع القول بأن الصحابة شاركوا في قتل عثمان ، ودخول شبهة الإرجاء على الصحابة - و على الخصوص عثمان بن مظعون - , وعد وقعة الجمل وصفين في مثالبهم , ناهيك عن القول بأن سيد المرسلين أخطأ في وسائل الدعوة ، وأن السنة معظمها وحي ، وأن المنافقين من طلاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... وغير ذلك .
المرحلة الخامسة : محاولة إسدال الستار على فصول هذه التهمة الشنيعة ، وذلك بحذف ذلك الموضع من كتابه في طبعته الجديدة , فقد قام الحجوري - أصلحه الله - بإعادة طبع كتابه: " أحكام الجمعة "في عام 1431هـ , واكتفى بحذف هذا الموضع من كتابه , وطبعا دون توبة ! ، ولا تبيين لسبب هذا الحذف من الكتاب ولو في المقدمة !! .
قلت: و هكذا أسدل فضيلة العلامة المحدث إمام الثقلين !! الستار على هذا الفصل المقرف ، ومن ثم يأتي الدهماء والعوام ومن لهم مآرب ، فيقولون قد صححه الشيخ العلامة المحدث إمام الثقلين يحيى بن علي الحجوري !!! كما يُزعم له , ولم نسمع له إنكار لذلك كله.
ومعلوم أن تلك الروايات التي تتحدث عن الفتنة عامتها من طرق الرافضة ، والكذبة , والهلكى الذين شوهوا معالـم الطريق إلى الصحابة , وشايعهم على ذلك حثالات
من المستشرقين الذين وجدوا فيها بغيتهم وضالتهم فكان ماذا ؟!
أليس الذين زعموا ذلك هذا وصفهم ؟! كأمثال: أبي مخنف ، وابن أعثم ، والواقدي ، ونصر بن مزاحم ، وسيف بن عمر التميمي وهو أحسنهم حالاً , ومع هذا فهو ضعيف لا يحتج به , ووقع في رواياته كثير من ذلك .
هذا وقد بين لنا رسول الله - صلى عليه وسلم - أنّ قتلة عثمان رضي الله عنه منافقين , فعن النعمان بن بشير , عن عائشة رضي الله عنها قالت : أرسل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - إلى عثمان بن عفان , فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه و سلم - فلما رأينا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أقبلت إحدانا على الأخرى , فكان من آخر كلامٍ كلمهُ أن ضرب منكبه وقال : (يا عثمان إن الله - عز و جل - عسى أن يلبسك قميصا , فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني , يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصا , فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني )ثلاثا , فقلت لها يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك ؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته . قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين: أن اكتبي إلي به , فكتبت إليه به كتابا . ([6])قلت: وقد احتج به الإمام أحمد , قال أبو بكر الخلال : أخبرني عبد الملك الميموني ، قال: قال أبو عبد الله: " قد أرادوه على ذلك ، يعني في حديث عثمـان: ( فـإن أرادوك علـى
خلعه فلا تخلعه) " ([7]) .
وتأمل في هذا الموقف من أحد الصحابة - رضي الله عنهم - عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : « استشارني عثمان رضي الله عنه ، وهو محصور فقال : ما ترى فيما يقول المغيرة بن الأخنس ؟ قلت : ما يقول ؟ قال : يقول : إن هؤلاء القوم إنما يريدون أن تخلع هذا الأمر وتخلي بينهم وبينه . فقلت : إن أنت فعلت ، أمخلف أنت في الدنيا ؟ قال : لا ، قلت : أفرأيت إن لم تفعل ، هل يزيدوا على أن يقتلوك ؟ قال : لا ، قلت : فيملكون الجنة والنار ؟ قال : لا ، قلت : فإني لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام ، كلما أسخطوا أميرا خلعوه ، ولا أن تخلع
قميصا ألبسكه الله عز وجل » ([8]).
تأمل في قوله : ( ومشاركة بعض الصحابة في قتل عثمان )هكذا قال , دون روية ولا بحث , ولا إشفاق على نفسه , ولا نظر في كلام أئمة السنة والمحققين , مع أنهم قد صرحوا في قتلة عثمان بأبشع الصفات وأقبحها ومنها: الحكم عليهم بأنهم خوارج ، وتلك بدعة , ومن المقرر المعلوم أن الصحابة ليس فيهم بدعة كما يأتي , لكن لا عجب فإن الحجوري يقرر أن بدعة الإرجاء دخلت على الصحابة كاذباً في نسبة ذلك لشيخ الإسلام , أو لسوء فهمه واستعجاله على أقل الأحوال !!! . ثم يزعمُ أن تلك مذاكرة .
أقول: قد تتابع الأئمة على ذم قتلة عثمان ووصفهم بأقبح الأوصاف بل قد سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقين , فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلن للأمة أن قتلة عثمان والخارجين عليه منافقين , والأئمة يصفونهم بأقبح الأوصاف , والحجوري يتهم بعض الصحابة بقتل عثمان , ولقد كان يسع الحجوري ألا يقول شيئاً في ذلك , لكنه ولع التعقيب والنقد الذي لا منتهى له عنده !!! . وخذ جملة من أقوال أئمة السنة في تبرئة الصحابة عموماً , ومحمد بن أبي بكر خصوصاً .
قال الفريابي : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال سمعت مالك بن أنس يقول: [ لـم يكن شيء من هذه الأهواء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا أبي بكر , ولا عمر , ولا عثمان وكان مالك يسمي الذين خرجوا على عثمان الخوارج ] . وإسناده صحيح ([9]) .
وروى خليفة بن خياط في تاريخه : عن عبد الأعلى بن الهيثم , عن أبيه قال: قلت للحسن : أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: ( كانوا أعلاجا من أهل مصر ) ([10]). وهذا يؤكده ما يأتي من نقول عن جماعات من الأئمة.
والحسن البصري ممن عاصر يوم الدار , قال العلائي : ( حضر يوم الدار وهو ابن أربع عشرة سنة ) ([11]) .
وقال أبو زرعة : [ وكان الحسن البصري يوم بويع لعلي ابن أربع عشرة ] ([12]) .
وعدَّهم الإمام الآجري من الخوارج فقال : " ثم إنهم خرجوا بعد ذلك من بلدان شتى , واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى قدموا المدينة ، فقتلوا عثمان بن عفان ، وقد اجتهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بالمدينة في أن لا يقتل عثمان ما أطاقوا على ذلك رضي الله عنهم " اهـ ([13]).
وقال العلامة النووي : (وقتلته فسقة ، لأن موجبات القتل مضبوطة , ولـم يـجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه , ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة ، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة الأطراف والأراذل ، تحزبوا وقصدوه من مصر )اهـ ([14]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ وأما الساعون فـي قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما ]اهـ ([15]) .
وقال أيضا: ( والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس ) ([16]). وله كلام كثير في ذلك يطول المقام بذكره .
وقال ابن كثير: [ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجون عن عثمان رضي الله عنه , لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته فما فجيء الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه , وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله ] اهـ ([17]) .
وقال الحافظ ابن حجر : ( وحصروه في داره , واجتمع جماعة يحمونه منهم فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار فدخلوا عليه فقتلوه , فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم ) ([18]) .
فهل يرضى الحجوري أن تكون هـذه الأوصاف من الأئمة في الصحابة أو بعضهم ،
وهل كان هؤلاء الأئمة سيقولون ذلك لو كان فيهم أحد من الصحابة وحاشاهم من ذلك وهم منهيون عن الخوض فيما شجر بينهم .
نعم , قد كان محمد بن أبي بكر ممن دخل على عثمان , ثم نزع ورجع , وندم وتأثر على قتل عثمان فكان ماذا ؟ , وسأذكر لك بعض ما يدل على براءته وتبرئته من دم عثمان , وأنك آخذته على شيء ندم من الدخول في أوله بسبب أهل الفتن , وجزمت بهذا - أعني بأن الحجوري أراد ابن أبي بكرـ ؛ بقوله: " ومشاركة بعض الصحابة في قتل عثمان على أن كلامه يحتمل أكثر من ذلك "فاحتج بابن أبي بكر - , واشتط في ذلك على مقتضى عادته , ثم زاد الاستدلال قبحاً وفجاً عظيماً حين استدل باقتتالهم في الجمل وصفين على مشاركة بعضهم في قتل عثمان , وأعوذ بالله من ذلك , إذ كيف يعمدون إلى من يدينون بأنه خيرهم وأمير المؤمنين ثم يخرجون عليه وهم يدينون بأنه أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر , وبأساليب المكر والخداع والغيلة .
وسأذكر لك طرفاً من الروايات الصحيحة التي تبرئ ابن أبي بكر ولا مطعن فيها , وليتحفنا بأسانيده التي زعم صحتها .
قال خليفة بن خياط في تاريخه : ( حدثنا المعتمر عن أبيه عن الحسن , أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته فقال عثمان : لقد أخذت مني - أو قعدت مني - مقعدا ما كان أبوك ليقعده , فخرج وتركه) ([19]). ورواه أحمد ([20]) , وابن أبي شيبة ([21]) , وقال الحافظ في المطالب : رجاله ثقات سمع بعضهم من بعض ([22]). وقد قدمت لك أن الحسن - رحمه الله - كان موجوداً يوم الدار.
قال أبو عمر ابن عبد البر: " وقال أسد : حدثنا محمد بن طلحة قال : حدثنا كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال : شهدت مقتل عثمان فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين كانوا يدرءون عن عثمان رضي الله عنه الحسن بن علي , وعبد الله بن الزبير , ومحمد بن حاطب , ومروان بن الحكم . وقال محمد بن طلحة : فقلت له : هل ند محمد بن أبي بكر بشيء من دمه ؟ قال : معاذ الله دخل عليه فقال له عثمان : يا بن أخي لست بصاحبي . وكلمه بكلام فخرج ولم يند بشيء من دمه. قال : فقلت لكنانة : من قتله قال : قتله رجل من أهل مصر يقال له جبلة بن الأيهم. ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول: أنا قاتل نعثل " ([23]) .
وقال الحافظ ابن كثير : (ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه , والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره , وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: " لقد أخذت بلحيةٍ كان أبوك يكرمها " فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع , وحاجز دونه فلم يفد , وكان أمر الله قدرا مقدورا وكان ذلك في الكتاب مسطورا )([24]) .
وقال ابن عبد البر : [ وقيل : إنه شارك في دمه , وقد نفى جماعة من أهل العلم والخبر أنه شارك في دمه , وأنه لما قال له عثمان : " لو رآك أبوك لم يرض هذا المقام منك" خـرج عنه وتركه ثم دخل عليه من قتله . ] اهـ ([25])ثم أقول أين منزلة محمد بن أبي بكر في الصحبة حتى يقال: " مشاركة بعض الصحابة في قتل عثمان "، وقد عده الحاكم أبو عبد الله في طبقة التابعين , وأطبق علماء الحديث على أن روايته مرسلة , وله شرف الصحبة باعتبار ولادته في العهد النبوي .
قال أبو عبد الله الحاكم : ( النوع الرابع عشر من هذا العلم: معرفة التابعين , وهذا نوع يشتمل على علوم كثيرة , فإنهم على طبقات في الترتيب , ومهما غفل الإنسان عن هذا العلم لم يفرق بين الصحابة والتابعين...) , ثم قال : "ومن التابعين بعد المخضرمين طبقة ولدوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا منه منهم يوسف بن عبد الله بن سلام و محمد بن أبي بكر الصديق ..." اهـ ([26]) .
وقال شيخ الإسلام: (وأما هؤلاء الرافضة فخصوا محمد بن أبي بكر بالمعارضة وليس هو قريبا من عبد الله بن عمر في علمه ودينه , بل ولا هو مثل أخيه عبد الرحمن , بل عبد الرحمن له صحبة وفضيلة , ومحمد بن أبي بكر إنما ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة , فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمه أسماء بنت عميس أن تغتسل للإحرام وهي نفساء، وصار ذلك سنة ولم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا خمس ليال من ذي القعدة , وذا الحجة والمحرم وصفر , وأوائل شهر ربيع الأول , ولا يبلغ ذلك أربعة أشهر , ومات أبوه أبو بكر رضي الله عنه وعمره أقل من ثلاث سنوات ولم يكن له صحبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قرب منزلة من أبيه إلا كما يكون لمثله من الأطفال )([27]).
وقال شيخ الإسلام : "حتى يفضلون محمد بن أبي بكر على أبيه أبي بكر, فيلعنون أفضل الأمة بعد نبيها ويمدحون ابنه الذي ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة ويتناقضون في ذلك ". اهـ ([28])غير أنهم مطبقون على عد روايته - وأمثاله ممن ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحصل لهم تمييز - مرسلة كمراسيل التابعين لا يحتج بها كما نص عليه غير واحد من الأئمة وتقدم . ([29])وأقول أليست كلمة: " بعض " - في قولك: ( ومشاركة بعض الصحابة في قتل عثمان ) جماعة ! فمن هم يا صاحب الفضيلة هؤلاء البعض ؟ .
وقد تولـى كبر ذلك أعنـي حكاية مشاركتهم ، أبو مخنف لـوط بن يحي , الشيعي المحترق الخبيث ([30])ومنهم نصر بن مزاحم الزائغ الغالي في الرفض وهو رافضي جلد ([31])وهكذا محمد بن عمر الواقدي متروك , البلاء مـنه , قال الذهبي: استقر الإجماع على وهن الواقدي ([32]) وقد أطلت لكن المقام يقتضي ذلك .
كتبه راجيًا عفو ربه أبو يوسف: مصطفى بن محمد مبرم الأول من شهر ربيع الثاني سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف الرياض - المملكة العربية السعودية أدام الله أمنها |
(1) ومنها طبعة: " دار شرقين " الأولى عام: (1423هـ) , صفحة: (305) .
(2) انظر: " تهذيب الكمال " للمزي (19/ 455) و(24/541) , و" تهذيبه " لابن حجر (4/82) و(5/49) .(3) أي ذكر المشاركة في القتل وعدمه .
(4) انظر: "سير أعلام النبلاء" (3/482), و"تأريخ الإسلام" : (3/429- 460) في سياق سرده لأحداث مقتل عثمان رضي الله عنه , وفي صفحة (600) من (ج3) أفرد لمحمد ترجمة وقال: "وكان أحد الرؤوس الذين ساروا إلى حصار عثمان كما قدَّمنا" .(5) "تاريخ الطبري" ط دار المعارف: (1/8) .
(6) رواه الإمام أحمد: (6/86) . قال شيخنا العلامة مقبل الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين": (ج 2 ص 501- 502 , ح 1589): "هذا حديث صحيح , على شرط مسلم" , وخرجه عند الترمذي : ثم قال : "وهو على شرط مسلم" . والحديث أخرجه ابن ماجه: (ج1 ص41) وعنده ، عن ربيعة بن يزيد ، عن النّعمان بن بشير ، بدون واسطة ، وسند الترمذي أرجح . وانظر الصحيح المسند من دلائل النبوة (ص415). وصححه الشيخ الألباني كما في "ظلال الجنة في تخريج السنة": (ص559, ح1179) .
(7) كتاب السنة للخلال: (1/321, برقم:407) .
(8) رواه أحمد في " فضائل الصحابة" ط الرسالة: (1/473, برقم: 767) .
(9) كتاب القدر للفريابي: (ص 218 , برقم: 387) .
(10) تاريخ ابن خياط: (ص 192) .
(11) جامع التحصيل, ط عالم الكتب: (ص 162, برقم: 135) .
(12) المراسيل لابن أبي حاتم, ط الرسالة: (ص 31, برقم: 92) .
(13) انظر الشريعة, ط دار الوطن: (1/327) .
(14) شرح النووي على مسلم, ط إحياء التراث: (15/ 148-149) .
(15) منهاج السنة النبوية: (ج6 ص297) .
(16) منهاج السنة النبوية: (ج8 ص234) .
(17) البداية والنهاية, ط دار إحياء التراث العربي: (7/220-221) .
(18) انظر الإصابة في تمييز الصحابة, دار الكتب العلمية: (4/ 379) .
(19) تاريخ ابن خياط: ص: (174) .
(20) في كتاب فضائل الصحابة, ط الرسالة: (1/472) .
(21) في مصنفه: 14/199, برقم (38686) ط الرشد " الأولى:1425هـ " .
(22) المطالب العالية: 18/42, برقم (4372).
(23) الاستيعاب في معرفة الأصحاب, ط دار الجيل: (1/1046) .
(24) البداية والنهاية, ط إحياء التراث: (7/207) .
(25)الاستيعاب في معرفة الأصحاب, ط دار الجيل: (1/1467) .
(26) معرفة علوم الحديث, ط دار الكتب العلمية: ( ص41-45) .
(27) منهاج السنة النبوية: (4/ 374 ) .
(28) المصدر السابق: (4/ 375) .
(29) فائدة : قال العلامة الوادعي - رحمه الله -:
قلت: أبو أمامة هو أسعد بن سهل بن حنيف, مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز, وله شرف الصحبة, وأما حديثه فمرسل, والمرسل من قسم الضعيف . اهـ "الصحيح المسند من أسباب النزول: ص (76)" . قلت: وقد قيل إنه ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين , فأين منزلة محمد بن أبي بكر الذي أدرك أربعة أشهر أو أقل منها إذا كان هذا لم يميز .
(30) انظر ترجمته في الكامل لابن عدي:(7/241, برقم:1621). ميزان الاعتدال,ط المعرفة: (3/419) وغيرهما.
(31) انظر ترجمته في الضعفاء للعقيلي, ط الكتب العلمية: (4/300) , ميزان الاعتدال: (4/253) .
(32) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال, ط دار المعرفة: (3/662) , تهذيب التهذيب, ط الهندية: (9/363) .
التعديل الأخير تم بواسطة حسام العدني ; يوم أمس الساعة 03:37 PM
( لا إلهَ إِلاَّ أنتَ سُبحانك إنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين )
أبو قَتَادة حُسام بن أحمد العدني
غَفَرَ اللهُ لهُ ولِوَالِدَيهِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق